كانت و لا تزال الحضارة المصرية القديمة -أو كما يسميها العوام الحضارة الفرعونية- كنزاً ثميناً من الفكر و العلوم و الثقافة و الأدب.
و لا أقصد بمصطلح الأدب هنا هو ما يُشير إلى تلك القدرة البشرية على التعبير عن عواطف الإنسان وأفكاره وخواطره وهواجسه بشتى طرق الكتابه ما بين شعرٍ و نثرٍ و رواية و ما إلى ذلك من نظوم اللغة بما فيها من قدرات ، و لكنى أقصد بالأدب هنا ذلك المُرادف الذي يَنُم عن السلوك و الأخلاق ، فكما نتحدث عن الآداب و الفنون فإن الحديث يتجلَّى كثيراً عندما يطالُ آداب السلوك أو الأخلاقيات بمفهومها العام.
الديانات السماوية تذخر بالكثير من التعاليم التي تَخصُّ آداب السلوك
و إن كانت الديانات السماوية تذخر بالكثير من التعاليم التي تَخصُّ آداب السلوك فى شتى مناحي الحياة و التي ألقت بظلالِها على أخلاقيات و سلوك البشر بما فيها من خيرٍ لهم و صلاحٍ بهِم ، إلا أنني فى هذه السطور أودّ أن أقتبس بعضاً مما وصلَنا من آداب السلوك و مفاهيمه لدي قدماء المصريين و الذي سبق تاريخياً ما وصلَنا من الأديان السماوية و التي نزلت على البشرية فى تواريخ تلت الحضارة المصرية القديمة. و فى هذا الأمر سَعيٌ مني لكشف بعضٍ من العراقة المصرية فى مناهج الآداب و السلوك و الخُلُق القويم.
و مما لا شك فيه أن السلوك المصرى العام و آداب السلوك فى يومنا هذا ما هي إلا نتاج لتوليفةٍ نادرةٍ من المُعطيات الأخلاقية التي ورثها المصريون من كُلٍّ من حضارتهم القديمة و كذلك من الأديان السماوية ، فكان المُنتج النهائي فريداً من نوعه و له سماته المصرية الخالصة التي تُميزه عن غيره.
و قد رسَّخ المصري القديم -كتابةً و تدويناً- العديد من القواعد الأدبية و الأخلاقية فى شتى أمور الحياة ، و من أهمها تلك المتعلقة بزيارة البيوت و إتباع السلوك المهذب و أصول التعامل مع أهلها.
و إن كان أغلبنا قد قرأ الآية السابعة و العشرين من سورة النور :
۞ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّىٰ تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَىٰ أَهْلِهَا ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۞ (النور:27)
إلا أن أقدم ما وصلنا من تعاليم تخص سلوك و آداب زيارة البيوت فى مصر القديمة هي ما يُدعى “تعاليم كاجمنى”.
و قد كان ” كاجمني ” وزيراً مِمن عاصروا الأسرة الثالثة في عهـد الملكين ” حوني ” و” سنفرو”، وقد وردت نسخة من هذه التعاليم مع تعاليم “بتاح حُتُب” في الصـفحات الأولى من برديةٍ إشتراها العالم الفرنسي “بريس” من أحد الفلاحين في الأقصر ، وأهداها إلى المكتبة الأهلية بباريس عام 1847م ، و المحفوظة بها حتى الآن ، وقد حُّررت هذه البردية في عصر الأسرة الثانية عشرة ، ولكن كاتبها نسبها إلى عصر الدولة القديمة ، وبالرغم من أن هذه التعاليم كانت موجهة إلى الوزير “كاجمني” من والده “كارس” إلا أنها عرفت بتعاليم “كاجمني” ، وهي تُعد من أقدم التعاليم والحكم التي وصلت إلينا حتى الآن. و قد ورد فى هذه التعاليم تحديداً للأشخاص المسموح بإستضافتهم فى البيوت حيث دُوِّنَ فيها :
” كُل البيوت تُفتح أبوابُها لغير المتكبرين ، ولصاحب اللسان المتواضع توجـد حجـراتٌ عديدة”.
و عليه فلم يكن المصري القديم ليقبل فى بيته مُتكبراً أو صاحبَ لسانٍ سليط.
و كذلك حرص المصري القديم على عدم زيارة أي بيتٍ سواءً كـان مـن ذوي القربى أم من غيرهم بدون إذنٍ صريح من صاحبه ، و قد ورد هذا في نصائح الحكيم “دني” الذي كان يعمل كاتباً في قصر الملكة “نفرتاري” زوجة الملك “أحمس الأول” ( حوالي 1525-1550 ق. م.) حيث كتب ما يلي :
“لا تذهبَنَّ إلى بيت إنسانٍ بحُرية ، بل ادخله فقط عندما يؤذن لك بدخولـه ، وحينمـا يقول هو لك ( أي ربُ البيت ) “أهلاً بك” بفمه، ولا تنظر بإستغراب في بيته ، و لكن انظر و الزم الصمت “.
و النص يُبيِّن بوضوح تقديس المصري القديم و إحترامه لحُرمة البيوت ، و كَيف كان يُحرِّم دخول البيوت إلا بالموافقة الصريحة لرب البيت بأن يقولها بفمهِ واضحةً.
و لا أعتقد إذا كان السيد خلوصي أكار وزير الدفاع التركي مُلِمَّاً بهذا الفصل الهام من التاريخ العالمي و أدبيات الحضارة المصرية القديمة ، و لكنه بلا شك قد فاته الكثير من مباديء الدبلوماسية الدولية و إحترام الدول و الشعوب عندما وطأ بقدميه أرض ليبيا الشقيقة دون إذنٍ من حكومتها و تحرك على أرضها دون صحبةٍ من قادتها و قابل من قابل ثم عاد أدراجه إلى بلاده.
و لم تمر أكثر من أربعٍ و عشرين ساعة لنشاهد مندوباً للرئيس المصري ، رفيع المستوى ، يزور ليبيا الشقيقة و يقابله بكل الحُب قادتها الكرام فى طرابلس و فى بنغازي ، و يجول بين أبنائها فى ودٍ و ترحابٍ لترسل مصر للعالم رسالةً تَحمل فى طياتِها ملامحَ تاريخٍ عريق و قَبَسٍ من حضارةٍ لم تنطفيء يوماً ، و لتُعلِّم مصر من لم يتعلم أصول و آداب زيارة الآخرين و أن البيوت لا تُدخلُ إلّا مِنْ أبوابها.
تحيا مصر
تحيا مصر
تحيا مصر