الأخبارمقالات الرأي

 أ. د. عمرو بسطويسي يـكـتــب.. «الأدب المصري»

كانت و لا تزال الحضارة المصرية القديمة -أو كما يسميها العوام الحضارة الفرعونية- كنزاً ثميناً من الفكر و العلوم و الثقافة و الأدب.
و لا أقصد بمصطلح الأدب هنا هو ما يُشير إلى تلك القدرة البشرية على التعبير عن عواطف الإنسان وأفكاره وخواطره وهواجسه بشتى طرق الكتابه ما بين شعرٍ و نثرٍ و رواية و ما إلى ذلك من نظوم اللغة بما فيها من قدرات ، و لكنى أقصد بالأدب هنا ذلك المُرادف الذي يَنُم عن السلوك و الأخلاق ، فكما نتحدث عن الآداب و الفنون فإن الحديث يتجلَّى كثيراً عندما يطالُ آداب السلوك أو الأخلاقيات بمفهومها العام.

الديانات السماوية تذخر بالكثير من التعاليم التي تَخصُّ آداب السلوك

و إن كانت الديانات السماوية تذخر بالكثير من التعاليم التي تَخصُّ آداب السلوك فى شتى مناحي الحياة و التي ألقت بظلالِها على أخلاقيات و سلوك البشر بما فيها من خيرٍ لهم و صلاحٍ بهِم ، إلا أنني فى هذه السطور أودّ أن أقتبس بعضاً مما وصلَنا من آداب السلوك و مفاهيمه لدي قدماء المصريين و الذي سبق تاريخياً ما وصلَنا من الأديان السماوية و التي نزلت على البشرية فى تواريخ تلت الحضارة المصرية القديمة. و فى هذا الأمر سَعيٌ مني لكشف بعضٍ من العراقة المصرية فى مناهج الآداب و السلوك و الخُلُق القويم.
و مما لا شك فيه أن السلوك المصرى العام و آداب السلوك فى يومنا هذا ما هي إلا نتاج لتوليفةٍ نادرةٍ من المُعطيات الأخلاقية التي ورثها المصريون من كُلٍّ من حضارتهم القديمة و كذلك من الأديان السماوية ، فكان المُنتج النهائي فريداً من نوعه و له سماته المصرية الخالصة التي تُميزه عن غيره.
و قد رسَّخ المصري القديم -كتابةً و تدويناً- العديد من القواعد الأدبية و الأخلاقية فى شتى أمور الحياة ، و من أهمها تلك المتعلقة بزيارة البيوت و إتباع السلوك المهذب و أصول التعامل مع أهلها.

و إن كان أغلبنا قد قرأ الآية السابعة و العشرين من سورة النور :

۞ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّىٰ تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَىٰ أَهْلِهَا ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۞ (النور:27)

إلا أن أقدم ما وصلنا من تعاليم تخص سلوك و آداب زيارة البيوت فى مصر القديمة هي ما يُدعى “تعاليم كاجمنى”.
و قد كان ” كاجمني ” وزيراً مِمن عاصروا الأسرة الثالثة في عهـد الملكين ” حوني ” و” سنفرو”، وقد وردت نسخة من هذه التعاليم مع تعاليم “بتاح حُتُب” في الصـفحات الأولى من برديةٍ إشتراها العالم الفرنسي “بريس” من أحد الفلاحين في الأقصر ، وأهداها إلى المكتبة الأهلية بباريس عام 1847م ، و المحفوظة بها حتى الآن ، وقد حُّررت هذه البردية في عصر الأسرة الثانية عشرة ، ولكن كاتبها نسبها إلى عصر الدولة القديمة ، وبالرغم من أن هذه التعاليم كانت موجهة إلى الوزير “كاجمني” من والده “كارس” إلا أنها عرفت بتعاليم “كاجمني” ، وهي تُعد من أقدم التعاليم والحكم التي وصلت إلينا حتى الآن. و قد ورد فى هذه التعاليم تحديداً للأشخاص المسموح بإستضافتهم فى البيوت حيث دُوِّنَ فيها :
” كُل البيوت تُفتح أبوابُها لغير المتكبرين ، ولصاحب اللسان المتواضع توجـد حجـراتٌ عديدة”.

و عليه فلم يكن المصري القديم ليقبل فى بيته مُتكبراً أو صاحبَ لسانٍ سليط.

و كذلك حرص المصري القديم على عدم زيارة أي بيتٍ سواءً كـان مـن ذوي القربى أم من غيرهم بدون إذنٍ صريح من صاحبه ، و قد ورد هذا في نصائح الحكيم “دني” الذي كان يعمل كاتباً في قصر الملكة “نفرتاري” زوجة الملك “أحمس الأول” ( حوالي 1525-1550 ق. م.) حيث كتب ما يلي :
“لا تذهبَنَّ إلى بيت إنسانٍ بحُرية ، بل ادخله فقط عندما يؤذن لك بدخولـه ، وحينمـا يقول هو لك ( أي ربُ البيت ) “أهلاً بك” بفمه، ولا تنظر بإستغراب في بيته ، و لكن انظر و الزم الصمت “.
و النص يُبيِّن بوضوح تقديس المصري القديم و إحترامه لحُرمة البيوت ، و كَيف كان يُحرِّم دخول البيوت إلا بالموافقة الصريحة لرب البيت بأن يقولها بفمهِ واضحةً.

و لا أعتقد إذا كان السيد خلوصي أكار وزير الدفاع التركي مُلِمَّاً بهذا الفصل الهام من التاريخ العالمي و أدبيات الحضارة المصرية القديمة ، و لكنه بلا شك قد فاته الكثير من مباديء الدبلوماسية الدولية و إحترام الدول و الشعوب عندما وطأ بقدميه أرض ليبيا الشقيقة دون إذنٍ من حكومتها و تحرك على أرضها دون صحبةٍ من قادتها و قابل من قابل ثم عاد أدراجه إلى بلاده.
و لم تمر أكثر من أربعٍ و عشرين ساعة لنشاهد مندوباً للرئيس المصري ، رفيع المستوى ، يزور ليبيا الشقيقة و يقابله بكل الحُب قادتها الكرام فى طرابلس و فى بنغازي ، و يجول بين أبنائها فى ودٍ و ترحابٍ لترسل مصر للعالم رسالةً تَحمل فى طياتِها ملامحَ تاريخٍ عريق و قَبَسٍ من حضارةٍ لم تنطفيء يوماً ، و لتُعلِّم مصر من لم يتعلم أصول و آداب زيارة الآخرين و أن البيوت لا تُدخلُ إلّا مِنْ أبوابها.
تحيا مصر
تحيا مصر
تحيا مصر

نقلا عن صحيفة  الاهرام العربى

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى