الأخبارمقالات الرأي

د. عادل اليماني يكتب: في ذكري رحيلِه الثالثةِ محمد فريد خميس «الصانع والمُفكر والإنسانُ»

دَقّاتُ قَلبِ المَرءِ قائِلَةٌ لَهُ
إِنَّ الحَياةَ دَقائِقٌ وَثَواني …
فَاِرفَع لِنَفسِكَ بَعدَ مَوتِكَ ذِكرَها
فَالذِكرُ لِلإِنسانِ عُمرٌ ثاني .

منذُ ثلاثِ سنواتٍ ، يرحلُ الصانعُ الكبيرُ ، المُحبُ لهَذَا الوطنِ ، والعاشقُ لكلِ ذرةٍ من تُرابه .
يرحلُ الذي كانتْ تُطربُه جلجلةُ ماكيناتِ المصانعِ ، والذي قضي عمرَه مُشيداً الصروحَ العملاقةَ ، ورافعاً اسمَ مصرَ في شتي بلادِ العالم ، فكان خيرَ سفيرٍ لوطنِه .

يرحلُ الإنسانُ ، الذي كانتْ أعمالُه أعلي صوتاً من كلماته ، إذا تحركَ سبقَ ، وإذا قالَ صدقَ . كان شعارُه دائماً : مشروعان خيرٌ من مشروعٍ واحد ، والأفضل أن يكونوا عشرين مشروعاً … يرحلُ محمد فريد خميس ، السيرة والمسيرة ، القلبُ النابضُ بالخير ..
لم أزامله طويلاً ، فقد كانت سبعَ سنين ، تمنيتُ لو كانتْ عمراً مديداً ، تعلمتُ منه فيها الكثيرَ ، ورأيتُ فيها أعلي مستوياتِ الحكمةِ والمهارةِ ، و فنونِ الإدارةِ ، رأيتُ فيها الجديةَ والالتزامَ ، الدقةَ والموضوعيةَ ، الذكاءَ والفراسةَ ، وقبلَ ذلكَ كلِه ( الإنسانية ) فقد كانَ غنياً ، في صفوفِ الفقراءِ ، يحبُهم ويرعاهم ، ويحنو عليهم ، ولم تكنِ الدُنيا يوماً في قلبِه ، يُنفقُ في الخيرِ إنفاقَ مَنْ لا يخشي من ذي العرشِ إقلالاً .
كانَ قوياً في الحقِ ، ينصرُ المظلومين .
متواضعاً ، يكرهُ التكبرَ ، ويمقُتُ التعالي ، ولا يخلو حديثُ موظفٌٍ أو عاملٍ أو مسئولٍ بشركاتِه ومؤسساتِه ، من قصةٍ إنسانيةٍ معه ، شديدةِ الرُقي ، يقشعرُ بَدَنُك وأنت تستمعُ إليها ، وتزدادُ معها فخراً وإعجاباً بهَذَا الإنسانِ .
ولذلك لم أكنْ مندهشاً لما رأيتُ هَذَا
الكمَ المذهلَ ، من رسائلِ الحُبِ والعرفان ، يومَ وَارَاهُ الثّرَى ، فقد كانَ وداعاً مهيباً ، لرجلٍ مهيبٍ .
كانتْ رسائلَ من قلوبٍ تعلقتْ بهذا الرجلِ ، رسائلَ من جموعِ المصريين ، قياداتٍ ومسئولين ، علماءَ ومفكرين ، صحفيين وإعلاميين ، فنانين ومبدعين ، عمالٍ ومواطنين ، أهلٍ وأقاربَ وأصدقاءَ ، مما دفعني ، للمزيدِ من التأملِ والقراءةِ ، في طبيعةِ هَذِه الشخصيةِ الفريدةِ ، والتي كان لها من اسمِها نصيبٌ وافرٌ ..

محمد فريد خميس :
كانتْ رسالتُك ، حبَ الوطنِ ، والتضحيةَ بكلِ شئٍ من أجلِه .
كانَ منهاجُك ، المحافظةَ علي الكلمةِ والوعدِ ، وأحترامَ الجميعِ .
كانتْ ثقافتُك ، أن الثروةَ الحقيقيةَ ، ليستْ في المالِ ، إنما في الأصالةِ والأخلاقِ ، وأن القيمةَ المجتمعيةَ ، أفضلُ عائداً ، وأبلغُ أثراً ، من تحقيقِ الأرباح .
كانتْ حياتُك كلُها ، أن مصرَنا الغاليةَ ، شرفُنا وعزُنا وكرامتُنا ، وهي الأحقُ بجهدِنا واستثماراتِنا ، وأن توفيرَ فرصِ العملِ ، أعظمُ هدية ، نردُ بها قدراً من فضلِ هَذِهِ الأرضِ الطيبةِ ، وخيرِها علينا جميعاً .
لن أنسي علي الإطلاقِ أحاديثَك عن أهميةِ الدور الاجتماعي لرأسِ المال ، ومنها ما قلتَه : لقد أفردَ الدينُ اهتماماً خاصاً بالعملِ الاجتماعي ، الذي يعودُ بالخيرِ على الناسِ ، ورفعَ من شأنِ كلِ عبادة فيها تحقيقٌ لمصالحِ العبادِ ، وقضاءٌ لحوائجِهم ، وتفريجٌ لكرباتهم ، وتهوينٌ لمصائبِهم ، وأقرَّ الحقيقةَ النبيلةَ : أحبُ الناسِ إلى اللهِ ، أنفعُهم للناس ، وأحبُ الأعمالِ إلى الله ، سرورٌ تُدخلُه على إنسان ، أو تكشفُ عنه كُربة ، أو تقضي عنه دَيناً ، أو تطردُ عنه جوعاً .
ففي الأديانِ كلِها ، لا معنى للعبادة بدون العمل الاجتماعي، بل إن العبادةَ نفسَها ، إن لم تقترن بحُسنِ الخُلق ، والمعاملةِ الحسنة مع الناس ، فإنها تجلبُ الوزرَ ، لا الأجرَ .
وليس من الدينِ ، أن نُقابلَ الأزماتِ التي نعيشُها من فقرٍ وبطالة ، بالانسحابِ من المجتمعِ ، والاعتكافِ في الزوايا .
وليس من الفقه في شئٍ ، أن يُنفقَ الغني أموالَه في الحج والعمرة ، كلَ عامٍ ، أو في زخرفةِ المساجد ، إلى حدِ الإسراف والمباهاة ، ويتركَ المجتمعَ غارقاً في أزماتِه ، لكنَّ مقتضى الفقهِ في الدين ، أن يُنفقَ هَذِهِ الأموالَ ، في الأوجهِ الأكثرِ نفعاً للمجتمع .
لقد فقدنا قيمةً وطنيةً عظيمةً ، فقدنا رمزاً نادراً من رموزِ الأصالةِ ، فقدنا مُشيدَ القلاعِ الصناعيةِ العظيمةِ ، والمؤسساتِ التعليميةِ الرائدةِ ، فقدنا نصيرَ العلماءِ ، والمنفقَ الأكبر َ علي العلمِ والمعرفة ، والبحثِ العلمي المتميز ، فقدنا صاحبَ موسوعتي ، النسيج في مصر عبر العصور ، ومصرُ التي أتمناها ، فقدنا المرجعيةَ الاقتصاديةَ الفذةَ ..
أعلمُ أن هَذِهِ الكلماتِ ، لن تقرأَها ، لكنَّك يقيناً تستشعرُ بها ، فهي كلماتُ مُحبٍ ، عاشَ معك أياماً ، ما أسرعَ مرورَها ، وما أعظمَ أثرَها ، وجدَ فيك الأبَ والرمزَ والقدوةَ ، وجدَ فيك القلبَ الحاني ، والجهدَ الصادقَ ، المنزهَ عن الرياءِ والسمعةِ ، وجدَ فيك الحكمةَ والعقلَ والفراسةَ والرأيَ السديد ..
قالَ ليَّ ، ذاتَ يومٍ ، وبينَّما أُحدثُه ، حديثَنا الصباحي اليومي المُعتاد ، عن حَالِ الدُنيا ، وأهمِ أخبارِها ، قالَ كلاماً أخجلَني ، يحملُ قدراً هائلاً من المُجاملةِ ، علي غيرِ طبيعتِه : أنتَ مُفكرٌ ، وأنا اصطفيتُك لنفسي ! وطبيعتي الحُكم علي الناسِ بعقلي فقط ، لكنني حكمتُ عليكَ بعقلي وقلبي ، فأنتَ منيَّ الابنُ والزميلُ والصديقُ والشريكُ !!
ما هَذَا الرُقي ! وما هَذَا الأدب !
فقدتُك جسداً ، ولم أفقدْك روحاً .
طِبتَ حياً وميتاً ، ولا أقولُ إلا ما يُرضي المولي جلتْ قدرتُه : إنا للهِ وإنا إليه راجعون ..
وداعاً يا أنبلَ الرجالِ ..
وداعاً محمد فريد خميس ..

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى