مقالات الرأي

م. شريف الفخراني يكتب.. من جيل المدرس والطبيب والمهندس إلى جيل النجاة المعيشية.. تحوّل مفهوم العمل المصري في الخليج

مقال تغيير العمل المصري في الخليج بقلم  عميد مهندس شريف الفخراني استشاري تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والتحول الرقمي

في الثمانينيات والتسعينيات، شهدت مصر موجة هجرة ضخمة إلى دول الخليج البترولية. آلاف المدرسين والأطباء والمهندسين والمحاسبين وحتى العسكريين تركوا أرض الوطن متجهين إلى بلدان كانت آنذاك تبني حاضرها وتؤسس لمستقبلها.

كانت تلك الدول في بداية تأسيسها الإداري والتنموي. ولم يكن لديها ناطقون بالعربية ولا كوادر مؤهلة على نطاق واسع، فكان الاعتماد على المصريين شبه كامل.

الانفتاح اقتصادي بدول الخليج

المصريون هناك وضعوا القوانين، وأسّسوا الهياكل واللوائح الإدارية، وساهموا في بناء دول من الألف إلى الياء. ولا يزال كثير مما وضعوه معمولاً به حتى اليوم، وإن كان في الظل.

لكن المشهد تغيّر تماماً خلال السنوات الخمس الأخيرة. فقد وضعت أغلب دول الخليج رؤى واستراتيجيات جديدة طموحة. وانتهجت سياسات انفتاح اقتصادي وتنوع في مصادر الدخل. وعلى رأسها المملكة العربية السعودية.

صاحب هذه التحولات خطط تعليم وتأهيل ضخمة للشباب الخليجي، فكانت النتيجة جيل جديد يتمتع بقدرات علمية وثقافية عالية، وانفتاح غير مسبوق على العالم.

اليوم، لم تعد المنافسة في سوق العمل الخليجي كما كانت. انفتحت الأبواب أمام كل الجنسيات، وانتعشت السياحة، وتوسّعت قطاعات الاقتصاد، لتصبح المنافسة على الوظائف أكثر حدة وشراسة.

في هذا السياق، تغيّر موقع العامل المصري.

لم يعد مطلوباً ذلك النموذج التقليدي “الموظف المصري بتاع زمان” محدود الخبرة أو الذي يعتمد على خبرته اللغوية أو الأكاديمية فقط.

بل باتت الحاجة إلى المصري المؤهل، القادر على العمل في بيئة تنافسية عالمية، يجمع بين المهارة التقنية، والانضباط، والمرونة الثقافية.

وفي المقابل، دخلت أسواق العمل الخليجية ملايين من العمالة المنظمة من دول مثل الهند، بنغلاديش، الفلبين، وسريلانكا، وهي عمالة تعمل كأنها آلات لا تعرف سوى الصمت والإنتاج، ترضى بالقليل وتتحمل قسوة الظروف في سبيل لقمة العيش، رغم ما قد تتعرض له من تجاوزات تمسّ أبسط حقوق الإنسان.

السفر قديمًا وحديثًا

الفرق الجوهري بين العمالة المصرية قديمًا والجيل الجديد من المهاجرين، لا يكمن فقط في مستوى التعليم أو نوعية العمل، بل في الغاية من السفر ذاته.

ففي الماضي، كان المصري يسافر بخطة واضحة: يعمل لعدة سنوات، يوفّر ما يكفي لشراء شقة، سيارة، وتأمين مستقبل أولاده بتعليم مجاني في مصر، ثم يعود إلى وطنه ليستقر.

كان السفر وسيلة لتحسين المعيشة، لا غاية للبقاء. وكانت الروابط بالوطن الأم قوية ومتجذرة، وكانت الرواتب كفيلة بتغيير حياة الأسرة بالكامل.

أما اليوم، فقد تغيّر كل شيء.

تكاليف المعيشة في دول الخليج ارتفعت بشكل كبير، من الإقامة إلى الكهرباء والوقود، وحتى المدارس أصبحت مثل مصر، في معظمها خاصة وبمصاريف باهظة.

تغيير مفهوم العمل المصري في الخليج

وبات الهدف الأساسي من السفر هو البقاء فقط: أن يأكل، يشرب، ويؤمّن تعليم أولاده، دون قدرة حقيقية على الادخار أو تحقيق حلم “الرجوع بالقرشين”.

زمن “سافر واحوّش وارجع” انتهى.

وزمن “اعمل قرشين وارجع لمصر” صار مجرد ذكرى في الذاكرة الجمعية.

اليوم، القرش نفسه يحتاج سنوات طويلة من العمر ليُجمع، والعودة باتت رفاهية لا يقدر عليها كثيرون.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى